إن نســــــيت ...
فلن أنســــــى !!
مواقف وعبر
إن نسيت .. فلن أنسى :
صــــــور اجتماعية ..
جمعت فيها تجارب ومواقف أثرت فيمن مروا بها ، وبمن عَلِمها وسمعها ، أفادتهم في مسيرتهم .. وغيرت مجرى حياتهم إلى الأفضل ...
أسردها عسى الله أن ينفعنا جميعا
ويجعلنا جميعا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ..
والحكمة بغية المؤمن
.... وأدرجت في ثنايا هذه السطور :
عبرا لمن يعتبر ..
وفوائد لمن يستفيد ...
وطرائف لمحب الطرفة ... !!!
فابحث عن بغيتك !!!
بين ركام الحروف ...!!!
**** **** ****
إن نسيت فلن أنسى :
( 1 )
الكــــــــنز المـــــــر
قال محدثي
* حدثني شيخ كبير - توفي - رحمه الله - وكان حين حدثني قد جاوز الثمانين من عمره ...
حدثني – رحمه الله – فقال :
حادثة مرت بي حين كان عمري قرابة التسع سنوات .. أثرت في تأثيرا عميقا ... جعلني ألتزم الصدق ما حييت ..
قال محدثي – رحمه الله - :
كنت في نحو التاسعة من عمري .. ألعب مع صبيان الحي ... وكنا نتفقد منازل أعراب كانوا قد رحلوا من منازلهم تلك ... لعلنا نجد ما يفرحنا ... وما أكثر ما يفرحنا في ذاك الزمان حين كنا في فقر شديد ...
وبينا أنا كذلك إذ وجدت ( روبية ) – عملتنا القديمة - ربما تساوي اليوم أقل من المائة فلسا ولكنها في ذاك الزمان تمثل ثروة ...- فكأني قد وقعت على كنز من كنوز الدهر !!!
قال محدثي – رحمه الله - :
كدت أطير فرحا للكنز الذي وجدت ..وخبأته في ثيابي ... وحين حضر موعد الدرس ( حلقة القرآن ) جلست بين أصحابي وأترابي .. أحفظ وردي معهم ... يشاغلني فرحي ( بروبيتي ) !!
ثم بشقاوة الصبيان .. تغافلت الشيخ لأري زميلي الجالس قربي كنزي الغالي الذي عثرت عليه ... ( روبيتي ) ... ربما لأغيظه .. وربما تباهيا بثروتي ...!! فما كان من زميلي ذي الخمسة عشر عاما إلا أن وشى بي عند الشيخ قائلا : يا شيخ هذا عنده روبية كاملة !!!! ...
و ياللداهـــــبة !!!!
كان الشيوخ في ذاك الزمان ... لا يناقش أحدهم ... وكانوا من الحزم والشدة بمكان .. فاحمرت عينا الشيخ ، ونظر لي نظرة شك وريبة واتهام ... وقال مغاضبا : يا فتى !!!.. من أين لك هذا ؟؟!!
ارتعد قلبي في صدري كعصفور ذبيح حبيس في قفص ... وأسقط في يدي ... فشيخي لن يصدقني مهما غلظت له من أيمان ... فهذه ( الروبية ) كنز نادر !!! ولا يمكن أن يصدق أحد أنني وجدتها في منازل العربان الذين رحلوا ..!!! والله يعلم أني لصادق ... !!
لذا ولفرط الرعب الذي سيطر على كياني .. وهز ثقتي في نفسي ... سبقت الكذبة إلى لساني وقلت لشيخي بتلعثم جلي ..: أعطانيها أبي لأشتري بعض حوائج البيت ...!! ...
- وكما أيقنت - .. فشيخي لم يكن من السذاجة بحيث يصدق تلك الكذبة ... فهو يعلم أن والدي أفقر بكثير من أن يعطيني ( روبية ) كاملة ... ووالدي أفقر من أن يملك هو ذاته ( روبية ) واحدة ..!!
هددني شيخي وقال :
لن أعاقبك حتى أسأل والدك .. ليعلم أبوك أي ابن أنت !!!
نبرات التهديد كادت تقتلني .. ثم أرسلني الشيخ مع زميلي ذاك ... (الفتان الواشي ) الذي وشى بي ... وطلب منه أن يأتيه بالخبر اليقين من والدي ..!!!
سرت مع زميلي ( الواشي ) أجر أقداما أثقلها الخوف من اثنين : شيخي الحازم ... ووالدي الصارم !!!
شيخي يكره الكذب ... وقد اشتم من كلامي رائحته ...!!!
ووالدي يمقت السرقة ... فلربما ظن بي الظنون ..!!!
أحسست عظامي بين فكي رحى ... !!!
ارتفع ناظري بسوق الفطرة إلى العلياء ... ارقب الفرج من رب الأرض والسماء ... ووالله لقد ولى بريق الفرحة ( بالروبية ) ... !!! وتمنيت أني مت قبل أن أرزق بذاك الكنز ...!!! وضاقت علي الأرض بما رحبت ... واسودت الدنيا في عيني بعدما كانت مزهرة ... وعصفت بي الهواجس والظنون ... وصارت اللحظات كأنها الدهور .. !!!
... وصلنا البيت ... بيتنا .. ودخل ذاك الصبي الواشي ... فرحا جذلا شامتا ... وسأل والدي بنبرة الواثق من الإجابة : أبا فلان ..!! يسألك الشيخ : هل أعطيت ابنك ( روبية ) كاملة ؟؟!! – طرح السؤال هكذا بلا مقدمات –
نظر إلي والدي – رحمه الله – ويدي ممتدة إليه بانكسار .. مبسوطة بوجل ( بالروبية ) وعيني تشي بالصدق وبالبراءة وبالوجل ...وبكل مشاعر المظلوم ...!!!
والدي – رحمه الله – أدرك بفراسة المؤمن أن في الأمر شيئا ... وأن في نظراتي انكسارا .. فقال لزميلي قولة لازال صداها يرن في مسمعي :
نعم ...!!! أنا أعطيته الروبية ... أبلغ شيخك الكريم أن ابني ( فلان ) تلميذه في الحلقة صادق فيما قال ...!! عفيف النفس أمين الصدر ...!!!
هنا ... تنفست بعدما انحبست أنفاسي ..!!
والآن زهوت في نفسي لثقة والدي في ، ولرده الاعتبار لي بعدما كنت قد تضعضعت من داخلي انكسارا ...
... ثم حين خلا بي والدي ... أجلسني إلى قربه – وهو الصارم – وقال : الآن ... قل لي : ما الحكاية ؟؟ لتنجو مني ..!! واعلم أنك لن تنجو إلا بالصدق ..!!!
فلما قصصت عليه القصص اطمأن إلى صدق لهجتي ... وقال : الصادق ينجيه الله ... سأتحقق من صدق روايتك !!
ثم تناول الروبية .. فإذا بها آثار ( بعر ) وبقايا خيوط ( سدو ) كأنما كانت تمهر صدقي ....
ردها لي والدي ( الفقير.. العفيف ) ... بعدما تيقن أني صادق ...ووجهه يتهلل بابتسامة ما رأيت أعذب منها قط في حياتي ...
****
قال محدثي – رحمه الله - :
توفي والدي - رحمه الله - بعد هذه الحادثة بنحو سنة أو سنتين ، وما خلف لي مالا ولا عقارا .. ولا حتى إخوة ... لكنه ورثني اعتبارا في نفسي ، وترفعا عن الدنايا ، وورثني حبا في الصدق ، وتعلقا بالأمانة ... ودرسا في العفة والتعفف ... !!!
رحم الله والدي وجميع موتى المسلمين أوسع الرحمات ...
**** **** ****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق